الفصل الثالث و الأربعون : في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم
من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم لا من
العلوم الشرعية و لا من العلوم العقلية إلا في القليل النادر و إن كان منهم
العربي في نسبته فهو أعجمي في لغته و مرباه و مشيخته مع أن الملة عربية و
صاحب شريعتها عربي و السبب في ذلك أن الملة في أولها لم يكن فيها علم و لا
صناعة لمقتضى أحوال السذاجة و البداوة و إنما أحكام الشريعة التي هي أوامر
الله و نواهيه كان الرجال ينقلونها في صدورهم و قد عرفوا مأخذها من الكتاب و
السنة بما تلقوه من صاحب الشرع و أصحابه و القوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر
التعليم و التأليف و التدوين و لا دفغوا إليه و لا دعتهم إليه حاجة و جرى
الأمر على ذلك زمن الصحابة و التابعين و كانوا يسمون المختصين بحمل ذلك و
نقله إلى القراء أي الذين يقرأون الكتاب و ليسوا أميين لأن الأمية يومئذ
صفة عامة في الصحابة بما كانوا عربا فقيل لحملة القرآن يومئذ قراء إشارة
إلى هذا فهم قراء لكتاب الله و السنة المأثورة عن الله لأنهم لم يعرفوا
الأحكام الشرعية إلا منه و من الحديث الذي هو في غالب موارده تفسير له و
شرح قال صلى الله عليه و سلم : [ تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما :
كتاب الله و سنتي ] فلما بعد النقل من لدن دولة الرشيد فما بعد احتيج إلى
وضع التفاسير القرآنية و تقييد الحديث مخافة ضياعه ثم احتيج إلى معرفة
الأسانيد و تعديل الناقلين للتمييز بين الصحيح مم الأسانيد و ما دونه ثم
كثر استخراج أحكام الواقعات من الكتاب و السنة و فسد مع ذلك اللسان فاحتيج
إلى وضع القوانين النحوية و صارت العلوم الشرعية كلها ملكات في الاستنباطات
و الاستخراج و التنظير و القياس و احتاجت إلى علوم أخرى و هي الوسائل لها
من معرفة قوانين العربية و قوانين ذلك الاستنباط و القياس و الذب عن
العقائد الإيمانية بالأدلة لكثرة البدع و الإلحاد فصارت هذه العلوم كلها
علوما ذات ملكات محتاجة إلى التعليم فاندرجت في جملة الصنائع و قد كنا
قدمنا أن الصنائع من منتحل الحضر و أن العرب أبعد الناس عنها فصارت العلوم
لذلك حضرية و بعد عنها العرب و عن سوقها و الحضر لذلك العهد هم العجم أو من
هم في معناهم من الموالي و أهل الحواضر الذين هم يومئذ تبع للعجم في
الحضارة و أحوالها من الصنائع و الحرف لأنهم أقوم على ذلك للحضارة الراسخة
فيهم منذ دولة الفرس فكان صاحب صناعة النحو سيبويه و الفارسي من بعده و
الزجاج من بعدهما و كلهم عجم في أنسابهم و إنما ربوا في اللسان العربي
فاكتسبوه بالمربى و مخالطة العرب و صيروه قوانين و فنا لمن بعدهم و كذا
حملة الحديث الذين حفظوة عن أهل الإسلام أكثرهم عجم أو مستعجمون باللغة و
المربى لاتساع الفن بالعراق و كان علماء أصول الفقه كلهم عجما كما عرف و
كذا حملة علم الكلام و كذا أكثر المفسرين و لم يقم بحفظ العلم و تدوينه إلا
الأعاجم و ظهر مصداق قوله صلى الله عليه و سلم : [ لو تعلق العلم بأكناف
السماء لناله قوم من أهل فارس ] و أما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة و
سوقها و خرجوا إليها عن البداوة فشغلتهم الرئاسة في الدولة العباسية و ما
دفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم و النظر فيه فإنهم كانوا أهل
الدولة و حاميتها و أولي سياستها مع ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم
حينئذ بما صار من جملة الصنائع و الرؤساء أبدا يستنكفون عن الصنائع و المهن
و ما يجر إليها و دفعوا ذلك إلى من قام به من العجم والمولدين و ما زالوا
يرون لهم حق القيام به فإنه دينهم و علومهم و لا يحتقرون حملتها كل
الاحتقار حتى إذا خرج الأمر من العرب جملة و صار للعجم صارت العلوم الشرعية
غريبة النسبة عند أهل الملك بما هم عليه من البعد عن نسبتها و امتهن
حملتها بما يرون أنهم بعداء عنهم مشتغلين بما لا يغني و لا يجدي عنهم في
الملك و السياسة كما ذكرناه في نقل المراتب الدينية فهذا الذي قررناه هو
السبب في أن حملة الشريعة أو عامتهم من العجم و أما العلوم العقلية أيضا
فلم تظهر في الملة إلا بعد أن تميز حملة العلم و مؤلفوه و استقر العلم كله
صناعة فاختصت بالعجم و تركتها العرب و انصرفوا عن انتحالها فلم يحملها إلا
المعربون من العجم شأن الصنائع كما قلناه أولا فلم يزل ذلك في الأمصار
الإسلامية ما دامت الحضارة في العجم و بلادهم من العراق و خراسان و ما وراء
النهر فلما خربت تلك الأمصار و ذهبت منها الحضارة التي هي سر الله في حصول
العلم و الصنائع ذهب العلم من العجم جملة لما شملهم من البداوة و اختص
العلم بالأمصار الموفورة الحضارة و لا أوفر اليوم في الحضارة من مصر فهي أم
العالم و إيوان الإسلام و ينبوع العلم و الصنائع و بقي بعض الحضارة في ما
وراء النهر لما هناك من الحضارة بالدولة التي فيها فلهم بذلك حصة من العلوم
و الصنائع لا تنكر و قد دلنا على ذلك كلام بعض علمائهم من تآليف وصلت
إلينا إلى هذه البلاد و هو سعد الدين التفتازاني و أما غيره من العجم فلم
نر لهم من بعد الإمام ابن الخطيب و نصير الدين الطوسي كلاما يعول على
نهايته في الإصابة فاعتير ذلك و تأمله تر عجبا في أحوال الخليقة و الله
يخلق ما بشاء لا شريك له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير و حسبنا
الله و نعم الوكيل و الحمد لله
Tidak ada komentar:
Posting Komentar